إشراقة 

لايذهب العرف بين الله والناس

 

 

 

     هناك كثير من الأعمال في هذه الحياة يقوم بها أناس ؛ ولكن ثمارها اليانعة لا يجنيها إلاّ أناس غيرهم . إن سنة الحياة وضعها ربنا الخلاّق العليم – تعالى شأنه – بشكل يدلّ دلالة صارخة على غناه وقدرته الكاملة وكونه إله العالمين الذي يفعل ما يشاء ؛ فتحريرُ البلاد والعباد من نير الاستعمار الأجنبي يقوم به رجال مخلصون ، يقدّمون في سبيله تضحيات جسيمة لايقدّمها إلاّ أصحاب العزيمة والهمة الأكيدة والإرادة الثابتة ثبوت الجبال الراسيات ؛ لكن الحرية والاستقلال لايتمتع بهما إلاّ من لم يصابوا في هذا الشأن بشوكة ولم يذوقوا مرارة ولم يُدْلُوا بدلو ولم يعرفوا مدى المعاناة التي ذاقها رجالُ التحرير الصابرون المصابرون المرابطون على ثغر البلاد لتخليصها من براثن الاستعمار البغيض الذي جثم على صدرها بكل نوع من المكر والدهاء ، فامتصّ خيراتها كالاسفنج .

     وكذلك الضيعة والأراضي الصالحة للزراعة والمال الوفير والثروة الواسعة إنما يكسبها أفراد بكد اليمين وعرق الجبين مصطلين الشمس المحرقة ومستظلين بخلوات الليالي ومضحين براحتهم و هدوئهم ومستعذبين العذاب في سبيل السعي من أجلها ؛ ولكنهم في الأغلب يُحْرَمون التمتع بها ، وإنما ينعم بها من يكون لم يعرف لذة الجدّ والاجتهاد من أجل كسب الدنيا والحصول على الوسائل المادية التي تحلّي الحياة وتسهّل العيش على هذه الأرض التي تضيق على رحبها على من يفقدها .

ِ

 
     وعلى ذلك فالحكم والسلطة ، ربما يكون الساعي مـن أجل الفوز بهما ، محرومًا إيّاهما ، أو معطياتهما التي تتحلب لها شفاه أغلب الناس وإنّما ينتفع بهما من لايكون له أي سهم في الجهود المضنية والمساعي المتصلة التي بُذِلت من أجل الحصول عليهما ؛ بل قد ينالهما من لم يخطرا على باله ، وقديماً قال الشاعر ، فأجاد وأفاد وأغنى وأقنع :

ِ

 
أَتَتْـهُ الخـلاَفَـةُ  مُنْـقَادَةً

إلَيْــه تُجَـرِّرُ أَذْيَـالَـهَا

     كثير من الأعناق تُقْطَع ، والرؤوس تُفْصَل ، والأجساد تُقَتّل ، والأيدي تُكْسَر ، والأَرْجُل تُجَاب ، والعِظَامُ تُذَابُ ، والأرواح تُعَذَّب ، في سبيل التوصّل للملك والسلطة ، وتُقَدَّم قرابينُ عدد لايحصى من النفوس البريئة والأرواح الزكية، فيتم فتح بلاد ، وإقامة دولة ، وإنشاء سلطة ، فيعتلي عرشَها في الأغلب ملوك وأمراء وحكام لم يصبهم خدش فضلاً عن أن تُرَاقَ قطرة من دمائهم وتُزْهَق روح أحد منهم : التضحياتُ بأنواعها إنما تكون نصيبَ الجنود ومن يحارب بهم مباشرةً على الجبهات من القواد الشجعان والضباط الصلاب الذين يعانقون الموت ويصافحون صنوف المكاره ؛ ولكنهم بعد ما يحققون الفتح المبين والانتصار العظيم لايُذْكَرُ لهم اسم ، ولاتُسَجَّل لهم منة ، ولا تُقَامُ لهم ذكرى ، ولايعرفهم أحدٌ من الرعايا وأفراد الشعب ؛ وإنما ينسبون المآثرَ كلَّها إلى الملوك والأمراء أو الحكام الذين يصعدون كراسيَّ الحكم أو عرشَ السلطة، ويقولون : إن جلالة الملك فلان مثال للبسالة وتدبير الحكم وتنظيم الجنود وتعبئة المقاتلين ، ولولا هو كذلك لما قام هذا الملك الكبير والدولة الواسعة المُوَطَّدة الأركان ، الشامخة البنيان ، التي تُسْخِط الأعداد وتَسُرُّ الأصدقاء ، وتُسْعِد الشعب بمختلف طبقاته . وأمراء وحكام لم يصبهم خدش فضلاً عن أن تُرَاقَ قطرة من دمائهم وتُزْهَق روح أحد منهم . التضحياتُ بأنواعها إنما تكون نصيبَ الجنود ومن يحارب بهم مباشرةً على الجبهات من القواد الشجعان والضباط الصلاب الذين يعانقون الموت ويصافحون صنوف المكاره ؛ ولكنهم بعد ما يحققون الفتح المبين والانتصار العظيم لايُذْكَرُ لهم اسم ، ولاتُسَجَّل لهم منة ، ولا تُقَامُ لهم ذكرى ، ولايعرفهم أحدٌ من الرعايا وأفراد الشعب ؛ وإنما ينسبون المآثرَ كلَّها إلى الملوك والأمراء أو الحكام الذين يصعدون كراسيَّ الحكم أو عرشَ السلطة، ويقولون : إن جلالة الملك فلان مثال للبسالة وتدبير الحكم وتنظيم الجنود وتعبئة المقاتلين ، ولولا هو كذلك لما قام هذا الملك الكبير والدولة الواسعة المُوَطَّدة الأركان ، الشامخة البنيان ، التي تُسْخِط الأعداء وتَسُرُّ الأصدقاء ، وتُسْعِد الشعب بمختلف طبقاته .

     وعلى ذلك فكثير من المدارس والجامعات ، والمعاهد والمؤسسات ، والمصانع والمعامل ، ومحلاّت البيع والشراء ، ومراكز التجارة والصناعة إنما ينشئها رجال يَشْقَوْن طويلاً في سبيل تسقّط كلّ وسيلة من الوسائل التي يرونها تعينهم على تحقيق أهدافهم ، فيسهرون ليلاً و يتعذّبون نهارًا ، ولا يذوقون راحة ، حتى يكتب الله لهم النجاح في إقامة منشأ من المنشآت التي تنفع الخلق ، وتخدم الشعب ، وتبني الأمةَ ، وتُطَوِّر البلاد ، وتُحَسِّن الاقتصاد ، وتُثَقِّف الأجيال ، وتنير العقول ، وتُنَمِّي المواهب ، وتفتح آفاقًا واسعة للعلم والمعرفة ، وتكافح البطالةَ ، وتُوَفِّر فرص العمل ، وتَشْغُل الشباب ، وتُنْقِذهم من التسكّع في الشوارع والطرقات ومن تزجية الوقت في الألعاب الملهية والفنون الملغية . فطرقٌ لا تُعَدُّ من الرقي والتقدم يَشُقُّها رجال مُوَفَّقون سُعَدَاء مَجْزِيُّون – إن شاء الله – من عند ربهم الشكور حسب جدّهم في العمل ، وإخلاصهم في النية ، وترفّعهم عن مذلّة الرياء وحبّ الشهرة ؛ ولكن الثمار لا يقطفها في أغلب الأحيان إلاّ من لايكون لهم نصيب من التعب ، وسهم من التفكير والعمل . وإنما يشاء الله تعالى أن يضعوا أيديهم الخرقاء على وسائل الرقي ومصادر التقدم هذه وغيرها ليضيعوها فيضيعوا هم والأجيال التي كان المرجو أن تنتفع بها هي وتنفع بها غيرها من عباد الله . وقليلاً ما يكون أن «الأخلاف» يكونون على «سيرة الأسلاف» أو «الورثة» يكونون على مستوى رجاء «المورثين» الذين كانوا قد أوجدوا تلك الوسائل ذات الخيرات الجمة .

     إنّ كثيرًا من أمور الحياة تسير على هذا النسق الذي أشرتُ إليه في السطور الماضية . فالمسافة الشاسعة إنما يقطعها رجال طموحون و«المنـزل» إنما ينعم به غيرهم ؛ ومعاناة الهجر وآلام الفراق إنما يذوقها أناس ، ولذة الوصال وحلاوة التلاقي إنما ينالهما غيرهم ممن لم يعرفوا للمعاناة معنى والألم دلالة، وإنما حالفهم الحظّ ولاقتهم المشيئة الربانية التي تنطلق من الحكمة التي لايتبينها العباد إلاّ من شاء الله منهم ؛ فالراحات بأنواعها يتمتع بها أناس و المشاق بأنواعها يتحملها غيرهم ، وهي التي تؤدي إلى تلك الراحات التي لذّها هؤلاء الذين لم يعرفوا إلاّ التمتع بالراحات التي حظوا بها . وعلى ذلك فالشقاء بالجدّ المتواصل يتجشمه رجال والمعطيات والمكتسبات النابعة منه إنما ينعم بها غيرهم . وكأن الله تعالى أراد أن يكون هناك رجال لايُتْقِنون إلاّ الجدَّ الدؤوبَ والعملَ المتّصلَ والمعاناةَ المستمرةَ ، والسعيَ الطويلَ في سبيل إنجاز مسيرة ، وتحقيق غاية ؛ وأن يكون هناك رجال آخرون لايحسنون إلاّ توفير المكتسبات والتمتع بالملذات ، والفرح بالانتصارات ، وإشباع الشهوات من كل شيء في الحياة .

     ويُخْطِئُ خَطَأً فاحشًا من يظن ممن يقرأ ما قلتُه في السطور السالفة أنّ العامل في هذه الدنيا ليس له جزاء سوى الحرمان والشقاء والمعاناة والعذاب ، وأن غير العامل هو الحَظِيُّ السعيد الفائز بالأنصبة الوفيرة والمعايش اللذيذة .

     لا والله ! إنّ العامل هو الحظى المجدود المسعود الموفق في الشريعة الإسلامية التي حثّت العباد على الجدّ والعمل والتحرك المتصل ، ودعاه دعوةً حثيثةً مؤكدةً على اجتناب البطالة والقعود والكسل ، فكان من دعاء نبينا الأعظم سيدنا محمد المصطفى صباحًا ومساءً : «رَبِّ أعوذ بك من الكسل» (مسلم 4/2088) . ويدلّ على قيمة العمل الحديث الذي رواه الشيخان : البخاري ومسلم – رحمهما الله تعالى – عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : «يَتْبَعُ الميتَ ثلاثةٌ : أهلُه ومالُه وعملُه ، فيرجع اثنانِ ويبقى واحد : يرجع أهلُه ومالُه ، ويبقى عملُه» (البخاري 11/315 ؛ مسلم 2960 ؛ وأخرجه أحمد بن حنبل في مسنده 3/110) .

     وقال تعالى – ومن أصدق من الله قيلاً ؟!-: «وَقُلِ اعْمَلُوْا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوْلُه وَالْمُؤْمِنُوْنَ» (التوبة /105) .

     وفي آيات كثيرة جاءت الدعوة إلى العمل الصالح وتنفيذ الخير وتحقيق ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .

     إنّ العامل لن يضيع عمله في الدنيا والآخرة ؛ فلقد صدق من قال : «لايذهب العرف بين الله والناس» . إن العمل الحسن الذي يرجع نفعه إلى الخلق بمن فيهم العامل نفسه يورث العاملَ الذكرَ الحسنَ ، والحياةَ الطيبةَ في الدنيا ، والنعيمَ المقيمَ في الآخرة ، شريطةَ أن يكون مؤمنًا بالله ورسوله ؛ لأن الكافر يضيع عملُه سدىً ، فما يعمله قد ينفعه في هذه الدنيا ؛ حيث يجمع الثروة الطائلة والراحة الزائلة ، ولكنه لايجني من ورائهما إلاّ الخسارة الدائمة والحسرة القائمة . قال تعالى : «إِنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا يُنْفِقُوْنَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيْلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُوْنَها ثُمَّ تَكُوْنُ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُوْنَ وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُوْنَ» (الأنفال / 36) .

     فإذا كان العامل مؤمنًا ، فلا داعي له إلى اليأس والإحباط ؛ لأن ما لايعود إليه – في نظره القاصر المحدود – نفعه في هذه الدنيا ، سيعود إليه نفعه – كما يؤكد الكتاب والسنة ونصوص الشريعة كلها – في الآخرة ، والآخرةُ خير وأبقى ؛ لأنها دائمة قائمة باقية بقاءً أبديًّا ، والدنيا فانية زائلة، أيامها محدودة ، ونعمها معدودة ، وراحتها منقوصة . فمن يجد أن نتائج عمله ضاعت ، فليتأكد أنها ذُخِرَت له ليوم القيامة ، ليوم يكون هو فيه أحوج ما يكون إليها ، فيقول : إنّه لو ذخرت جميع أعماله لهذا اليوم لكان أحسن .

     وَفَّقَ الله الجميع للعمل بما يحبه ويرضاه ، وأن يجعلنا جميعًا نؤمن من جديد بأن الآخرة خير لنا وأبقى من دنيانا الفانية الزائلة ، فإن نجد خيرًا في دنيانا فلنحمد الله ، وإن لم نجد ، فلن يجوز لنا أن نسيء الظن بالله تعالى ، وإنما يجب أن نؤمن بأنّ الله قد ادّخر لنا عملنا ليوم لا ينفعنا فيه مال ولابنون .

 

(الساعة 10 من صباح الأحد 27/ ذوالقعدة 1425هـ الموافق 9/يناير 2005م)

أبو أسامة نور

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.